أكثر السجون قسوة ليست تلك المحاطة بالأسلاك الشائكة، بل هي المنازل التي يتنفس سكانها العدم العاطفي. نحن نعيش في مجتمع يهتم بامتلاء البطون، لكنه يغض الطرف عن أرواحٍ ينهشها الهزال. حين ينمو الذكر أو الأنثى في بيتٍ بارد، حيث العاطفة فيه عملة نادرة أو عيب اجتماعي، فنحن لا ننتج بشراً سوياً، بل ننتج مشاريع كوارث مؤجلة. الأنثى التي تعيش فقراً عاطفياً في منزلها، لا تخرج للعالم باحثة عن الحب، بل تخرج باحثة عن الاعتراف بوجودها. هذا الجوع يغلق لديها رادارات الحذر؛ فتصبح أي كلمة طيبة، ولو كانت كاذبة، بمثابة طوق نجاة. هي لا تقع في حب الشخص، بل تقع في حب (سد الفجوة). ولأنها لم تشبع عاطفياً من المصدر الأول (الأب)، فإنها تمنح مفاتيح روحها لأول عابر سبيل يتقن فن العزف على أوتار الحرمان. تنظر للمرآة فلا ترى إنساناً، بل ترى نقصاً يحتاج لآخر كي يكمله، وهذا هو أول طريق العبودية الوجدانية. أما الذكر الذي يفتقر للدفء في منزله، فهو ينمو بقلبٍ متصحر. يُعلّمونه أنّ القسوة هي الرجولة، وأنّ العاطفة ضعف. هذا (الجائع عاطفياً) يتحول غالباً إلى أحد نموذجين: إما كائن هش يختبئ خلف قناع السيطرة، أو صياد ماكر يبحث في الإناث عما فقده في بيته. هو لا يعرف كيف يُعطي لأنه لم يستلم أصلاً. وعندما يتزوج، يمارس نفس الصيام العاطفي على زوجته وأولاده، معتقداً أنّ تأمين الخبز هو قمة العطاء، بينما هو في الحقيقة يورث المجاعة لجيلٍ جديد. البيوت التي تفتقر للعناق والكلمة الحانية ليست بيوت محافظة، بل هي مصانع للعقد النفسية. الذكور والإناث الذين يخرجون من هذه المجاعات يدخلون العلاقات وهم يحملون ثقوباً سوداء في صدورهم؛ يظنون أنّ الآخر هو المسؤول عن رتقها، فيرهقون الشريك بمطالب عاطفية تعجيزية، أو يهربون من القرب الحميمي لأنهم يجهلون لغته. خاتمة الوجع: إن لم تدرك أنّ فقرك العاطفي هو جرحك الشخصي الذي يجب أن تضمدّه بوعيك لا بأجساد الآخرين، فستظل تدور في حلقة مفرغة. أنت لست مضطراً لتكون نسخة من برود والديك، ولستِ مضطرة لتكوني ضحية لأي عابر يمنحك فتات الاهتمام. العالم لا يدين لك بالحب لأن أهلك حرموك منه.. العالم يدين لك فقط بالحقيقة: أنت جائع، والبحث عن الشبع في الأماكن الخطأ هو انتحار بطيء. _ منذر القزق